إنَّ الحياء صفة من صفات الله رب العالمين ، والملائكة والمرسلين ، وصالح المؤمنين ، فقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم ربَّه بذلك فقال
(إن ربكم تبارك وتعالى حيي كريم ، يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفراً خائبتين )) ((سنن أبي داود ، والترمذي ، وابن ماجه)) ، وكل صفة وصف الله بها نفسَه وقامت الأدلة على وصف العباد بها فلا تظنن أن ذلك يعني مشابهة الله لخلقه – تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً – قال تعالى :{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } ((سورة الشورى : 11)) ، فالفرق بين صفاتنا وصفاته كالفرق بين ذاتنا وذاته .
وقول النبي صلى الله عليه وسلم في عثمان رضي الله عنه ((ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة)) ((صحيح مسلم)) دليل على اتصاف الملائكة به ، وهو خلق الأنبياء ، فقد جاء عن خاتمهم صلى الله عليه وسلم
( أربع من سنن المرسلين : الحياء ، والتعطر ، والسواك ، والنكاح )) . ((سنن الترمذي)) وقال أبو سعيد رضي الله عنه ينعت نبينا صلى الله عليه وسلم : "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشدَّ حياءً من العذراء في خدرها".(( أخرجه الشيخان))
وهو خلق المؤمنين الصادقين ، فهذا عثمان بن عفان رضي الله عنه يُذكِّر النبي صلى الله عليه وسلم الأمةَ بمناقبه فيقول
(وَأَصْدَقُهُمْ حَيَاءً عُثْمَانُ )) ((أحمد والترمذي وابن ماجه)) . ويسأل النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه – وفيهم ابن عمر -
(إِنَّ مِنْ الشَّجَرِ شَجَرَةً لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا ، وَإِنَّهَا مَثَلُ الْمُسْلِمِ ، فَحَدِّثُونِي مَا هِيَ)) ؟ فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ الْبَوَادِي ، قَالَ ابن عمر : وَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ ، فَاسْتَحْيَيْتُ ، ثُمَّ قَالُوا : حَدِّثْنَا مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ
(هِيَ النَّخْلَةُ)). ((أخرجه الشيخان))
والحياء من الأخلاق التي كانت تُعرف في الجاهلية :
فإن أبا سفيان لما كان على الإشراك سأله هرقل أسئلة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما انتهى الكلام بينهما قال أبو سفيان : "والله لولا الحياء من أن يأثروا علي كذباً لكذبت " . ((أخرجه الشيخان))
وفي غزوة حنين تبع أبو موسى الأشعري أحد الكفار فولى هارباً ، فقال له أبو موسى رضي الله عنه :" ألا تستحي ؟! ألست عربياً ؟! ألا تثبت ؟!" فوقف وتقالا فقتله أبو موسى .(( أخرجه مسلم))
وأولى الناس بخلق الحياء النساء ، وقد خلَّد القرآن الكريم ذكر امرأة من أهل هذا الخلق ، قال الله عنها :{ فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } ((سورة القصص ، الآية : 25)).
فهذه الآية تدل على حياء تلك المرأة من وجهين :
الأول : جاءت إليه تمشي على استحياء بلا تبذل ، ولا تبجح ، ولا إغواء .
الثاني : كلماتها التي خاطبت بها موسى عليه السلام ، إذ أبانت مرادها بعبارة قصيرة واضحة في مدلولها ، من غير أن تسترسل في الحديث والحوار معه وهذا من إيحاء الفطر النظيفة السليمة والنفوس المستقيمة .
ولا يدري من وقف على أحداث هذه القصة التي جرت لنبي الله وكليمه موسى عليه السلام أيعجب من حياء المرأة أم من حيائه عليه السلام ؛ فقد جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه :" جاءتْ واضعةً يدَها على وجهها ، فقام معها موسى وقال لها : امشي خلفي وانعتي لي الطريق وأنا أمشي أمامك فإنا لا ننظر في أدبار النساء " ((مستدرك الحاكم :2/441 ، برقم : 3530))
وإن تعجب من هذه المرأة فعجب أمر فاطمة رضي الله عنها التي حملها الحياء على أن تقول لأسماء بنت أبي بكر : يا أسماء إني قد استقبحت ما يُصنع بالنساء ؛ أنه يُطرح على المرأة الثوب فيصفها . فقالت أسماء : يا بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أريكِ شيئاً رأيته بأرض الحبشة؟ فدعت بجرائد رطبة فحنتها ثم طرحت عليها ثوباً ، فقالت فاطمة رضي الله عنها : ما أحسن هذا وأجمله ، يُعرف به الرجل من المرأة ، فإذا أنا مت فاغسليني أنت وعلي ولا تدخلي علي أحداً . فلما توفيت جاءت عائشة تدخل فقالت أسماء : لا تدخلي . فشكت لأبي بكر فقالت : إن هذه الخثعمية تحول بيني وبين ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جعلت لها مثل هودج العروس ! فجاء أبو بكر فوقف على الباب وقال : يا أسماء ما حملك على أن منعت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يدخلن على ابنته ، وجعلت لها مثل هودج العروس ؟ فقالت : أمرتني أن لا أدخل عليها أحداً وأريتها هذا الذي صنعت وهي حية فأمرتني أن أصنع ذلك لها . فقال أبو بكر : فاصنعي ما أمرتك . ثم انصرف ، وغسلها علي وأسماء رضي الله عنهما . ((سنن البيهقي : 4/34))
لله درها ! ما أكمل حياءها !! وليس هذا مما يُستغرب منها فهي من قد عرفنا .
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم ، ونفعنا بما فيه من آياتٍ وذكر حكيم ، أقول قولي هذا ، وأستغفر الله العظيم لي ولكم وللمؤمنين إنه غفور رحيم .